اتصل بنا
 

رجائي المعشر ليبرالي يُسخر طاقاته لخدمة البيروقراطيين

نيسان ـ نشر في 2018-07-16 الساعة 20:18

x
نيسان ـ

محمد قبيلات..

يجلس رجائي المعشّر مرتاحا على كرسي نائب رئيس الوزراء الأردني. لا يشعر بارتباكات المستجدين على عالم السياسة، ولا الطارئين على المسؤولية، فقد خَبَر العمل وزيرا في الحكومات منذ عقود، وهو من جيل تخضرم في إدارة الدولة الأردنية، أكثر من مرة. شهد انتقالها من نمط الإنتاج الاستعماري إلى نمط الدولة شبه الريعية، بعد تعذر انتقالها إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، وها هو يشهد أيضا أزمات نهاية حقبة ريعية الدولة بسبب اختلالات عائدات النفط، وصعوبات الانتقال إلى حقبة الاعتماد على الذات.

فالدولة الأردنية، وهي على مشارف المئوية الأولى من عمرها، باتت اليوم تتلمّس خيارات كثيرة لإعادة صياغة الحكم بما يتوافق مع هذه المستجدات، ومع الظروف والتحدّيات التي لا تقتصر على الأبعاد الداخلية، فالمنطقة كلها دخلت مَرجل التغيّرات، والحدود باتت مغلقة في معظم الاتجاهات.

الظروف باتت اليوم أصعب، بل إن المشكلات تأخذ في التعمّق، خصوصا مع فقدان الهوامش التي تستطيع أن تتحرك فيها الحكومة لسد العجز في إيراداتها وتغطية نفقاتها المتزايدة. فلم يعد ممكنا بيع مؤسسات ومنشآت اقتصادية أو أصول لتوفير السيولة النقدية، كما لم يعد الاقتراض مُتاحا بالسهولة المعهودة، فقد تم بلوغ سقف التسهيلات الممكنة، وفوق هذا كله، لم يعد من السهل فرض المزيد من الرسوم والضرائب في ظل احتقان الشارع، وتوسع مدارات الرقابة الشعبية، وسطوة المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي المتعاظمة.

وزير تموين تسقطه الاحتجاجات

حمل المعشّر عضوية مجلس الأعيان لأكثر من خمس مرات، وشارك في إعداد الأجندة الوطنية، وعمل في أكثر من خمس حكومات في مناصب وزارية مهمة، حيث تخصّص منذ تسلمه أول منصب وزاري في الجانب الاقتصادي. ولم يبرح مكانه، في المواقع التي شغلها، كعضو فاعل في الفريق الاقتصادي، كان أولها عام 1974 عندما أصبح وزيرا للاقتصاد الوطني في حكومات زيد الرفاعي الثانية، وفي الثالثة عام 1976، وبعدها كان وزيرا للتموين أيضا في حكومة الرفاعي الرابعة عام 1985، التي سقطت في “هبّة نيسان” عام 1989، على وقع الاحتجاجات التي اشتعلت ابتداء من مدينة معان الجنوبية، وكان ذلك إثر رفع أسعار الوقود وفي أعقاب أزمة خانقة ألمّت بالاقتصاد الأردني.

المعشر من مواليد 1944، يحمل شهادة الدكتوراه في إدارة أعمال من جامعة إلينوي في الولايات المتحدة الأميركية وقد حصل عليها عام 1971، وكان قد أنجز درجة الماجستير في إدارة الأعمال أيضا من الجامعة نفسها عام 1966، أما شهادته الأولى بكالوريوس في الكيمياء، فهي من الجامعة الأميركية في بيروت بلبنان عام 1964.

ليست هذه المرة الأولى التي يكون فيها المعشّر نائبا لرئيس الوزراء، فقد شغل هذا المنصب في حكومة الرفاعي الابن في عام 2010 التي أسقطتها احتجاجات الربيع العربي في عمان والمحافظات عام 2012، ويقال إنه كان رافضا المشاركة في تلك الوزارة، لكنه قبل القيام بذلك الدور إكراما لمعلمه الكبير زيد الرفاعي، الذي كان يدير الترتيبات من وراء الستارة، من أجل نجاح نجله الذي كان يخوض غمار تجربته الأولى في تولي رئاسة الوزراء.

وأكثر من ذلك، أن بعض السرديات العمّانية تروي قصة مفادها أن الملك الراحل الحسين بن طلال همس في أذن المعشر، ذات مرة، معبرا عن رغبته بأن يشكل الحكومة في تلك الفترة، لكن المعشر نبّه الملك الراحل إلى أنه ينتمي إلى الطائفة المسيحية الأردنية، فرد الحسين على الفور مستنكرا: وماذا في ذلك؟، فوضّح المعشر للملك أن العرف لم يجرِ على هذا النحو من قبل.. فطوى الصمت ذلك الحديث.

رجل المهمات الخاصة

برغم عدم إخلاصه التام لأفكار المدرسة المحافظة، إلا أن البيروقراط في الدولة الأردنية يثقون به أشد الثقة، فهو يُعدُّ من رجالات المدرسة الليبرالية التي تسربت إلى الإدارة الأردنية في سبعينات القرن الماضي، لذلك ظل المنتدب دوما كضابط لإيقاع أي تجربة جديدة خوفا من انزلاقها إلى مهالك النيوليبرالية، ولعل بداية ظهوره كليبرالي كان مع دخول الليبرالية للسياسة الأردنية في عهد زيد الرفاعي منتصف سبعينات القرن الماضي.

عمل في الظل لدى أطياف أخرى، غير الحكومات، فقدم خدمات شملت الجماعات اليسارية الأكثر جذرية، فلا نستطيع أن ننسى، في هذا المقام، دوره في تجربة أبناء الحرّاثين النيابية حيث أشرف على تصميم هذه الفكرة منذ البداية، حين رتّب اللقاء الملكي مع بعض كوادر اليسار سنة 2012 في منزله، ويومها قال الملك عبدالله الثاني للمجتمعين “لست بعيدا عنكم، فأنا يساري أيضا ومؤمن بالتوجهات الاشتراكية في ما يخص التربية والصحة”، ومن يومها تم إطلاق لقب “اليسار الملكي” على تلك المجموعة.

تم انتدابه إلى أكثر من موقع ليضبط إيقاع التوجهات الليبرالية الجديدة على وقع مصالح بيروقراطية الدولة العميقة الأردنية، ولم يتوقف عن هذا النشاط عندما كان في القطاع الخاص، فقد رعى البنك الأهلي، الذي يستلم رئاسة مجلس إدارته ويمتلك حصة كبيرة من أسهمه، الكثير من الفعاليات الفكرية والإبداعية؛ مما وثق علاقته بالأنتلجنسيا الأردنية وعلى وجه التحديد أجنحتها التنويرية.

أيضا تمَّ الاستنجاد به حين شبت صحيفة “العرب اليوم” عن طوق وسقف الحريات المسموح به، في ذلك الحين، فحاز المعشر على ملكيتها بتسهيلات من مؤسسة الضمان الاجتماعي، لهدف تدجينها وضبط سقفها، مع الحفاظ على تميّزها عن باقي الصحف اليومية، وهذا ما حدث بالفعل حتى آخر عدد صدر منها في عام 2015، لكنه لم يستطع مواصلة دفاعه عنها وسط ما واجهها من حصار رسمي ناتج عن عدم اتساع صدر الأطر البيروقراطية لمطاولتها سقوف الممنوعات والخطوط الحمر، إضافة إلى ما واجهته من أزمة مالية، فكانت أولى ضحايا أزمة الصحافة اليومية الأردنية.

تحليق خفيض

مشاركة المعشر، اليوم، في حكومة عمر الرزاز لا تخرج عن إطار تلك المهمّات الجليلة التي قدمها للبيروقراطية الأردنية، لكن، مع فارق جوهري يلف هذه التجربة، وهو أن المعشر لم يعد بحماسته

المعهودة، وأكثر ما يظهر عليه ذلك، أنه يقوم بهذا الدور الجديد كما لو أنه مُكره عليه أو يتجشّمه على مضض، فانعكس ذلك على أدائه.

تردُّد بات جليا من خلال التصريحات المتعجلة أحيانا، ما يجعله يتراجع عنها في اليوم التالي، فقد قال إن الحكومة اضطرت إلى الاقتراض من أجل دفع الرواتب عن شهر يونيو، وهو ما كان قاله وزير المالية السابق في حكومة هاني الملقي، عمر ملحس، قبل أسابيع، حين صرّح إبان أحداث الرابع بأن الحكومة لن تستطيع دفع رواتب الموظفين، ما أثار لغطا شديدا حينها.

الشيء ذاته حدث بعد تصريحات المعشر الأسبوع الماضي، لكنه عاد وتراجع عن هذه التصريحات في لقاء جمعه مع مجلس النقابات، وأضاف خلال ذلك الاجتماع الذي ضم اللجنة الوزارية المكلفة بمناقشة التعديلات على قانون الخدمة المدنية بمجمع النقابات الأحد الماضي، أن رواتب الموظفين هي من الإيرادات الجارية التي تحصلها الدولة، ومن غير المعقول أن يتم الاقتراض لدفع الرواتب.

ومما يدلّل على عدم حماسته ما حدث في أول اجتماع لمجلس الوزراء في الحكومة الحالية، حيث أخذت الحماسة بعض الوزراء لتبني وتنفيذ مطالب الشارع بتخفيض رواتب ومخصصات وتقاعد الوزراء، فما كان من المعشر إلا أن أجابهم بضرورة التريث وعدم التعجل، فالخزينة لن تفلس من رواتب الوزراء وخصوصا التقاعد، وشرح للوزراء المتحمّسين من موقعه كنائب للرئيس وأكبرهم عمرا أنه لا يجوز أن يضحوا بهذه الامتيازات ليتلطموا من بعد استقالة الحكومة على أبواب الشركات الخاصة والبنوك طالبين الحصول على فرص للعمل، فقبل القوم نصيحته وانتهى النقاش وكفاهم الله شرّ التضحيات.

المعشر يتحفظ على وعود الحكومة

لكن يجب ألا نُغفل أنه من الممكن أن تكون من أهم الأسباب التي جعلته يقبل العودة إلى العمل الوزاري، ثاراته مع الملقي، فقد سبق للمعشر أن كان من ضمن المجموعة التي حمّلت حكومة الملقي جزءا من المسؤولية عن اغتيال الكاتب الأردني ناهض حتر. فهناك من لا يزال يهمس بهذا الحديث برغم من أن المعشر كان وسيطا في الترتيبات التي جرت بين أهالي الفحيص والجهات الرسمية من أجل حضور بعض الرسميين لتقديم واجب العزاء، فالفحيص هي البلدة التي تقطنها عشيرة حتر، وهي من ضمن مناطق محافظة البلقاء التي ينتمي إليها المعشر.

يضاف إلى ذلك علاقة المعشر الخاصة التي تجمعه والراحل حتر، حيث كان ناهض حتر كاتبا في جريدة “العرب اليوم” ومسؤولا عن البرنامج الثقافي في البنك الأهلي، وظل يشمله برعاية خاصة، حتى بعد فصله من هذين الموقعين، ما يراه بعض المهتمين أنه لا يخرج عن طريقة المعشر ودوره الرئيسي الذي يقوم به بشكل رسمي، من موقعه كليبرالي ينتمي إلى مؤسسات الدولة وبيروقراطيتها وممثل عن البرجوازية الوطنية، التي تتعاطى بإيجابية مع أطياف المعارضة خصوصا العلمانية منها، على أمل كسبها في المعركة مع التيارات الإسلامية.

ولم يكن مستغربا ما نشره المعشر عن قانون ضريبة الدخل، الذي اقترحته حكومة الملقي، فقد كتب مقالا انتقد فيه قانون الضريبة الجديد، وأظهر بعض عيوبه تحديدا في ما يخص فرضه ضريبة جديدة مضاعفة على توزيع أرباح الأسهم للبنوك والشركات المساهمة.

جذر هذا النقد يعود إلى قاعدة دستورية تنص على عدم جواز فرض الضريبة مرتين على السلعة أو الخدمة، وأن هذه المؤسسات تدفع أصلا ضريبة للدخل، فكيف تدفع الضريبة مرة أخرى على الأرباح، ورأى المعشر أن القطاع الصناعي الذي هو أكبر مشغّل للأيدي العاملة الأردنية سيتحمل عبئا ضريبيا كبيرا من خلال زيادة نسبة الضريبة على القطاع الصناعي وإلغاء إعفاء أرباح الصادرات من الضريبة، وهذا ما يوضح إخلاصه لطبقته الاجتماعية.

يتابع المعشر اليوم اتصالات الحكومة ولقاءاتها مع النواب وكتلهم البرلمانية بهدوء قلق، فبرغم من وجوده الدائم إلى جانب رئيس الوزراء في تلك الحوارات إلا أنه، وحسب ما يروى، يحتفظ بدور المستمع إلى الشروط والمطالب الكثيرة، ربما لتحفظه على سيل الوعود التي تصرفها الحكومة من أجل الحصول على الثقة، فهو أعلم الوزراء بمحدودية الإمكانات، وهذا ما يفسّر صمته.

الرئيس الرزاز يحاول اليوم الهروب قليلا إلى الأمام. أعطى للنواب وعودا غير واضحة عن نيته تحقيق مطالبهم بإجراء تعديل على فريقه الوزاري، لكن بعد مئة يوم وبناء على أداء الوزراء، الموضوع هنا يخص بعضا من الوزراء غير المقبولين لدى نواب مستقلين، واسم نائب الرئيس غير مشمول بهذه الفئة من الوزراء، لكن هناك من يقول إن التعديل قد يشمل الفريق الاقتصادي في الحكومة لأسباب لا تتعلق بسهام نقد البرلمان.

المشكلة الرئيسية تتعلق بتكوين الفريق الاقتصادي، فمن جانب؛ وزير المالية هو الأمين العام لهذه الوزارة على مدى سنوات خلت، وهو من أشرف على إعداد موازنة 2018 وما سبقها من موازنات، فما الذي يستطيع فعله اليوم وما الذي تغيّر، فالمشكلات مازالت قائمة، والوعود بالدعم من الخارج لم يتحقق منها شيء.

من جانب آخر؛ وضع الفريق الاقتصادي لا يحسد عليه، فقد كال من النقد الكثير لبرامج الحكومة السابقة، ليجد نفسه في الموقف ذاته وأمام الخيارات المحدودة ذاتها، إضافة إلى اضطراره لتمرير حزمة رفع الأسعار على مواد الوقود ومنها الكهرباء، وإعادة قانون ضريبة المبيعات إلى مجلس النواب بتعديلات طفيفة لن ترضي الشارع الذي ينتظر من الحكومة تحقيق بعض مطالبه لا فرض الرسوم ورفع الأسعار.

ربما لم يكن رجائي المعشر، على مدى عمره الوظيفي الطويل، أمام خيارات أصعب من هذه الخيارات.

نيسان ـ نشر في 2018-07-16 الساعة 20:18

الكلمات الأكثر بحثاً