اتصل بنا
 

لا يعودون

قاص واعلامي اردني

نيسان ـ نشر في 2018-11-08 الساعة 13:51

نيسان ـ بتنا جميعنا نعرف أنها كانت آخر خطواته قبل أن يتحوّل إلى أيقونة في ليل العرب الطويل. وحده الذي لم يخطر على باله أنها كانت خطواته الأخيرة. أن ورقة عزوبيته لم يعد لها معنى. أن الساعات سوف تمضي ويأتي الليل. ويأتي بعد هذا الليل ليل آخر وآخر حتى يصير الليل طعم أيامنا ولون صحرائنا التي تحدد نوع قيمنا وسيرة تاريخنا المُبلّل بالدم والذبح والسحل والإقصاء.
وحين قد يرتاح الذهن قليلاً، وحين يميل المرء لأن ينسى ويذهب لمشاغله بالحياة، فإن مشهد دخول الشهيد جمال خاشقجي مبنى قنصلية بلده في اسطنبول، يعاند النسيان. يتجلى كمشهد لا يُنسى، ليس هذا فقط، بل يفرّخ مشاهد أخرى: مشهد ذبح الحلاج لأنه أراد، مندفعاً بصفاء الذهن وقوة الإيمان، اقتراح شكل من أشكال التصوّف يعانق الواقع ويحاسب السلطة الغاشمة. لأنه نادى، كما يذهب الكاتب المصري هاني بكري في مقالٍ له يحمل عنوان "وقائع موت معلن لمثقف خارج عن السياق"، بتصوّفٍ لا "يخدِّر العامة ولا يمنّيهم بأنهار الخمر والعسل واللبن مقابل التنازل عن حقوقهم في الحياة الدنيا. تصوَّفٌ طالب ولأول مرّة بتوزيعٍ عادلٍ للثروات والحقوق وتأليب العامّة وتثويرهم على أوضاعهم".
مشهد قتل بشّار بن برد لأنه هجا خليفة يزني بعمّاته. أو مشهد ذبح الجعد بن درهم صبيحة عيد الأضحى وسط تهليل وتبريك المشايخ تحت دعاوى التبديع والتفسيق. أمّا الجريمة التي استحق عليها هذه العقوبة الوحشية، فهي نفيه القدرية عن أفعال الإنسان، وبالتالي على الحكام تحمُّلِ مسؤولية ظلمهم وطغيانهم، فكان لابد من إسكات هذا الخطاب المزعح المتصاعد في مواجهة خطاب المرجئة المهادن والخانع والمبرر والمتمتع بحماية الدولة الأموية.
الخاشقجي، والحال كذلك، لا يعدو سوى (ذبيحة) جديدة في قائمة المغدورين على أيدي (المارقين). قائمة لا يبدو أنها في طريقها لإغلاق صفحاتها، طالما بقي الوعي العربي قاصراً عن سبر أغوار خطاب السلطة المستجيرة بالدين أو نقاء العرق أو مشروعية الولاء الأعمى للحاكم حتى لو كان مصاباً بالصرع والذهانات المرضية القاتلة، ومركبات النقص المترافق مع أوهام عَظَمَةٍ طاغية.
بم كان يفكر وهو على بُعد خطوات من حتفه؟ هل خدعه (طول الأمل) ولم يَدُرْ بخلده أنه قد لا يعود؟ يبدو أن النص الكثيف للشاعر المغربي محمد بنميلود، حول لحظة الحقيقة الجاثمة أمام طول الأمل، لم يمرّ كَطَيْفٍ شفيفٍ عند خطوته الأخيرة قبل أن يغلق الباب عليه فلا يعود يُرى:
"علينا أن نودع بعضنا باستمرار، أن نتبادل الوداع كل حين، بكثير من الصمت، والحنو، والنظرات الطويلة إلى الأبواب، أن نألف الوداعات، كما نألف أسرّة نومنا. كل من يخرج ويغلق الباب، قد لا يعود. كل من يذهب إلى مخبزة في الصباح الباكر، مبتهجاً بيومٍ جديد، قد لا يعود إلى قهوته التي ستفيض على النار. كل من يذهب إلى المطبخ، في عمق الليل، فقط ليشرب، قد لا يعود أبداً إلى أحلامه. كل من ينام بعد أن يقول لنا: تصبحون على خير، قد لا يستيقظ أبداً. كثيرون خرجوا مبتسمين، ولم يعودوا في المساء، ولا في أي مساء. كثيرون انعكسوا في صفاء دموعنا وهم يبتعدون دون التفات. عادت الفصول في أوانها، عادت الطيور من الهجرات، أزهار الأصيص عند النافذة، ولم يعودوا".

نيسان ـ نشر في 2018-11-08 الساعة 13:51


رأي: محمد جميل خضر قاص واعلامي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً