اتصل بنا
 

ورطة صباحية

نيسان ـ نشر في 2018-01-08 الساعة 12:26

نيسان ـ

تجلس قبالتي في المقهى الصغير فتاة في منتصف ثلاثيناتها، متوسطة الجمال، رقيقة الملامح. يبدو عليها الحزن. أطراف شعرها المهمل مصبوغة بدون انتظام، وجهها خالٍ تماما من المساحيق، وكانت تبذل جهدا كبيرا، كي لا تنهمر دموعها التي فاضت عن عينيها العسليتين. أحاول بإخلاص أن لا أستمع لمحادثاتها الهاتفية المتتالية مع الصديقات كما افترضت، لكن ذلك كان صعبا لسببين: الأول أن صوتها ظل مرتفعا وحاد النبرة، والثاني أنه لا أحد وجد في المقهى الصغير سوانا حينذاك، حتى أن النادل، الشاب الجامعي الذي يعقص شعره إلى الخلف، توارى عن الأنظار بعد أن وضع على طاولتي فنجان قهوة، مصحوبا بابتسامته المشرقة. الآن صرت على درايةٍ بأن الصبية الحزينة قرّرت، بعد تردد طويل، أن تلبي الدعوة إلى حفل الزفاف، على الرغم من أنها 'مش طايقة تشوف حدا'، لكنها مضطرة للذهاب كي يتأكد الجميع من أنها ليست منهارة، ولا تشعر بالغيرة أبدا، وأن القصة برمتها صارت وراء ظهرها، لأن كل شيء قسمة ونصيب في نهاية الأمر، علاوة على أنها تجاوزت مشاعر الحب الغبية من طرف واحد صامت، لأنها وعلى الرغم من إلحاح الصديقات لم تبح بها من قبل، على أمل أن يستنتج ذلك وحده.

لذلك، سوف تذهب إلى العرس مشرقة وجميلة وسعيدة. قبل ذلك، ستعرّج على الكوافير، وتعتني بجمالها بشكلٍ مضاعف، كما تتجه النية لديها لارتداء الفستان الخمري، الموشح بالأسود، لأنها صرفت النظرعن الفستان الأزرق، لأنه قد يظهرها ممتلئة بعض الشيء، وتبين أن صديقتها سلام لن تستخدم السيارة. وبالتالي، لا مشكلة ولا داعي للقلق؟ من سلام؟ وما المبهج في عدم حاجتها للسيارة. وهل يتعين علي أن أطمئن كذلك؟ طيب، إذا كل شي على ما يرام، وليس ثمّة ما يستدعي القلق: لماذا ما زالت الفتاة المسكينة ترتجف غضبا، وقد غلبتها الدموع، وهي تحاول أن تكتم النحيب؟ تملكتني الحيرة، وأنا أحاول تصنع الانهماك في شأني، وكأن دموعها لا تحرق قلبي. هل أستمر في تجاهلي المشهد الحزين، والتصرّف بحياد بارد، كما لو أن هذا المقهى الصغير الذي تجلس فيه امرأتان غريبتان في هذا الصباح في مدينة أوروبية نائية، وليس في قلب عمان، حيث 'الناس لبعضها' كما يزعمون؟ هل أواسيها في لحظة ضعفها وهشاشتها، وأغامر بالتعرّض إلى توبيخٍ منها، واتهامٍ بالتطفّل والفضولية؟ ما هذا الامتحان الصباحي الشاق؟ يا إلهي.. هل أربت على كتفها، وأقول لها بضع كلمات مواسية عن قلة حساسية الرجال، أم أمضي في كتابة المقال الأسبوعي الذي نويت إنجازه، كي أتمكن من إرساله في الموعد المحدد؟ ينهمر المطر بغزارةٍ وتشق السيارات طريقها في الضباب بصعوبة.
لمت نفسي على الخروج مبكرا، على الرغم من تحذيرات الجهات المختصة من السيول الجارفة المتوقع تكوّنها في هذا المنخفض الجوي العميق، الذي أطل بعد طول انحباس. ترتشف الفتاه المخذولة قهوتها، وتسرح في البعيد. لعلها تقرع نفسها بشدّة لعدم إقدامها على البوح في اللحظة المناسبة. ربما كانت تفكّر في الثوب المثير والماكياج الصاخب الذي يجب أن ترتديه، والشاب الوسيم الذي ينبغي أن تختاره بعناية، كي يراقصها في الحفل، برهانا إضافيا على عدم حزنها بزفاف الحبيب إلى إحدى صديقاتها المقرّبات. ولماذا ينشغل ذهني إلى هذا الحد، ويلازمني إحساس بالمسؤولية، وبضرورة فعل شيء يخفف عنها ألمها؟ وفي الوقت نفسه، ثمة ما يمنعني من مبادرتها بأي كلمة، فيما استولى علي الارتباك والحيرة والخجل. وضعت هاتفها في الحقيبة الصغيرة. ألقت بعض النقود في صندوق الفاتورة الخشبي الصغير. نهضت متوجهةً إلى الخارج، بعد أن أعادت شعرها إلى الخلف بعصبية. توقفت عند طاولتي برهة خاطفة.
رمقتني بنظرةٍ حزينةٍ، قرأت فيها الكثير من العتب وخيبة الأمل من صفات البشر الأجلاف، قساة القلوب غير المكترثين، لفرط أنانيتهم، بعذابات الآخرين، مهما كانت جلية واضحة للعيان!
مشاركة

نيسان ـ نشر في 2018-01-08 الساعة 12:26


رأي: بسمة النسور

الكلمات الأكثر بحثاً