يثير التقدم المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي تساؤلات جوهرية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وأخلاقية عميقة، مما يضع البشرية أمام تحديات جديدة. ومع استمرار هذه التكنولوجيا في إعادة تشكيل الصناعات والتأثير على حياتنا اليومية، يصبح فهم العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. وفي هذا السياق، يبرز دور المؤسسات الأكاديمية، ليس فقط في تطوير هذه التكنولوجيا، ولكن أيضاً في دراسة تأثيرها وتوجيه استخدامها.
الآداب الإنسانية: البوصلة الأخلاقية
في جامعة مينيسوتا توين سيتيز، يُنظر إلى كلية الآداب الليبرالية على أنها حجر الزاوية في التعامل مع هذه التحديات. يقول غيرشون أفيليز، عميد الكلية: “نحن ندرك أن إنسانيتنا ليست مجرد نقطة بيانات؛ وأن مشاعرنا وأخلاقنا وإبداعنا لا يمكن أن تقيدها الخوارزميات”. ويضيف أفيليز أنه على الرغم من التحول الجذري الذي أحدثه الذكاء الاصطناعي، فإن الآداب الإنسانية توفر “المنظور الذي يتمحور حول الإنسان” الضروري لمعالجة الأسئلة المعقدة التي يطرحها.
يعمل الباحثون في الكلية على استكشاف هذا المجال بفضول وهدف، ونقل وجهات نظرهم المستنيرة إلى الطلاب الذين سيساهمون في تشكيل مستقبل العلاقة بين البشر والآلات.
مقاربات متعددة التخصصات لفهم التكنولوجيا
يتجلى هذا التوجه في تطبيقات متنوعة داخل الكلية. على سبيل المثال، تتبنى أماندا دالولا، مديرة مركز اللغات والباحثة اللغوية، الذكاء الاصطناعي كـ “شريك في تعلم اللغة” بل وحتى “كموجه حياتي” في بعض الأحيان.
من ناحية أخرى، يؤكد غالين جونز، أستاذ الإحصاء، أن كلية الآداب هي المكان المناسب لرسم ملامح مستقبل تقوده هذه التكنولوجيا، مشدداً على حقيقة أنه “لا يمكنك تطبيق الذكاء الاصطناعي بدون الإحصاء”. لذلك، يمنح قسم الإحصاء الأولوية لإعداد الطلاب لفهم تاريخ ومستقبل هذا المجال.
وحيث أن الكثير من فلسفة الذكاء الاصطناعي تعود إلى التاريخ، فليس من المستغرب أن يكون عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ – الذي تخيل آلة قادرة على التفكير والتعلم كالبشر في الخمسينيات – موضوعاً لأوبرا بعنوان “أنا آلان تورينغ”، التي ابتكرها الأستاذ المساعد ومصمم الصوت فريدريك كينيدي بالتعاون مع مبدعين آخرين.
من النظرية إلى التطبيق: دراسة في جامعة جونز هوبكنز
بالانتقال من النقاش النظري إلى التطبيق العملي، خاصة في قطاع التعليم، طرح فريق من جامعة جونز هوبكنز تساؤلاً رئيسياً: كيف ستؤثر أدوات مثل “ChatGPT” على تعلم الطلاب؟ للإجابة على ذلك، أجرى الفريق دراسة رائدة في مركز الشباب الموهوبين (CTY) التابع للجامعة.
تضمنت الدراسة التجريبية 22 طالباً من المرحلتين المتوسطة والثانوية مسجلين في دورة عبر الإنترنت بعنوان “التشخيص: كن الطبيب”. تم تقسيم الطلاب إلى فصلين افتراضيين، وفي أحدهما، تم منح الطلاب إمكانية الوصول إلى روبوت دردشة (نموذج لغوي كبير) مُصمم ليعمل كـ “معلم مساعد” أو “مدرب”، يطرح أسئلة بأسلوب سقراطي أثناء عمل الطلاب على دراسات حالة طبية.
أهداف التجربة وتفاصيلها
أوضحت كاثرين طومسون، مديرة الأبحاث في CTY والمؤلفة الرئيسية للدراسة، أن الفريق كان مهتماً بالمزايا المحتملة للروبوت. وقالت: “كثيراً ما يتحدث الباحثون عن المزايا مثل تقديم ملاحظات شخصية وفورية للطلاب، وتخفيف العبء عن المعلمين في مهام مثل التصحيح أو إعداد خطط دروس فردية”.
وأضافت طومسون: “أردنا استخدامه كطريقة محتملة لدعم المعلم في الفصل الدراسي، كفرصة إضافية للطلاب للتعلم عن طريق مدرس خصوصي أو كأسلوب تعليمي تفاعلي”. تم تصميم الروبوت، الذي حمل اسم “دكتور سميث”، لتقديم ملاحظات استفسارية؛ فعندما يستنتج الطالب أن المريض مصاب بسرطان الدم (اللوكيميا)، كان الروبوت يطالبه بالتدقيق أكثر في مسحة الدم، أو مراعاة عدد الصفائح الدموية، أو فحص مظهر خلايا الدم البيضاء.
النتائج: أهمية “محو الأمية الرقمية”
نُشرت نتائج الدراسة مؤخراً في “مجلة الأكاديميين المتقدمين”، وكشفت عن رؤى هامة. أولاً، لم يجد الفريق “فروقاً ذات دلالة إحصائية” في درجات التقييم النهائي بين المجموعتين.
والأهم من ذلك، وجد الباحثون أن “العديد من الطلاب استخدموا روبوت الدردشة بطرق غير متوقعة”. فبدلاً من الانخراط في الحوار التوجيهي (السقراطي) الذي صُمم من أجله الروبوت، لجأ الطلاب إلى سؤاله عن المعلومات مباشرة.
تؤكد هذه النتائج أن الاستخدام الناجح للذكاء الاصطناعي في الفصول الدراسية “يعتمد على التصميم الدقيق، والتوجيه المنظم من المعلم، ووضع توقعات واضحة للطلاب”. وخلصت الدراسة إلى أن “محو الأمية في مجال الذكاء الاصطناعي” سيكون أمراً ضرورياً إذا أريد لهذه التكنولوجيا أن تحدث تأثيراً ذا معنى في التعليم.
وأشار دانيال خشابي، المؤلف المشارك في الدراسة والأستاذ المساعد في علوم الكمبيوتر، إلى أن المشروع الذي بدأ في عام 2023 كان يهدف ببساطة إلى “رؤية كيف سيختار الطلاب استخدام” هذه الأدوات بعد تزويدها بضوابط أمان، لتكون النتائج بمثابة خطوة أولى لفهم هذا التفاعل المعقد.