
يواجه نظام التعليم الأمريكي، من جامعاته العريقة إلى مدارسه الحكومية، أزمة متعددة الأوجه تهدد أسسه ومستقبله. بين تراجع التمويل، وانخفاض أعداد الطلاب، والتشكيك في قيمة التعليم نفسه، تظهر تحديات عميقة تتطلب أكثر من مجرد حلول حسابية، بل تتطلب وقفة جادة وعملاً حقيقياً.
الجامعات في عين العاصفة
تواجه مؤسسات التعليم العالي، الحكومية والخاصة على حد سواء، تحديات هائلة. فقد شهد التمويل الحكومي والفيدرالي تراجعاً مطرداً، مما أجبر هذه المؤسسات على شد الأحزمة، وتقليص أعداد الموظفين، وإلغاء أقسام أكاديمية بأكملها، وإغلاق بعض مرافقها. كما أدت السياسات المتعلقة بالهجرة إلى انخفاض كبير في أعداد الطلاب الدوليين، الذين كانوا يشكلون مصدراً موثوقاً للإيرادات من خلال دفعهم للرسوم الدراسية كاملة. وفوق كل ذلك، يلوح في الأفق ما يُعرف بـ “الهاوية الديموغرافية”، وهو انخفاض حاد متوقع في أعداد الشباب في سن الجامعة، مما يؤدي بالفعل إلى تقلص أعداد الملتحقين في جميع أنحاء البلاد. هذه الضغوط دفعت العديد من الجامعات الصغيرة إلى إغلاق أبوابها أو الاندماج مع مؤسسات أكبر للبقاء على قيد الحياة. في الوقت نفسه، بدأ الطلاب المحتملون وعائلاتهم يتساءلون بشكل متزايد عن جدوى الحصول على شهادة جامعية، خاصة مع استمرار ارتفاع تكاليفها بشكل يفوق قدرة الكثيرين.
الأزمة في المدارس: ثلاث مسائل تكشف المستور
لكن هذه الأزمة لا تقتصر على أسوار الجامعات، بل تمتد جذورها عميقاً لتصل إلى المدارس الأساسية والثانوية. لفهم أبعادها الإنسانية، يمكننا النظر إليها من خلال ثلاث “مسائل واقعية” ترويها معلمة أمريكية من واقع تجربتها، وهي مسائل تكشف أن المشكلة لا تتعلق بالأرقام فحسب، بل بالقيم والعدالة.
المسألة الأولى: موارد المعلم
في إحدى المناطق الحضرية، استلمت معلمة علوم للمرحلة الإعدادية، دعنا نسميها سامانثا، حصتها من اللوازم المدرسية للعام الدراسي بأكمله: حفنة من أقلام الرصاص، قلمان للسبورة البيضاء، دفتر ملاحظات لاصق واحد، علبة محارم ورقية، مجموعة أقلام حبر، إصبع صمغ واحد، وعلبة مناديل معقمة. هذه هي كل الموارد المتاحة لها لتعليم 132 طالباً، 62.5% منهم ينتمون لأسر ذات دخل منخفض. السؤال هنا ليس حسابياً، بل أخلاقي: ماذا يكشف ذلك عن أولويات مجتمع يسمح بأن تكون مدارسه الأكثر فقراً هي الأقل تجهيزاً؟ وهل يُتوقع من المعلمين أن يغطوا هذا العجز من جيوبهم الخاصة؟
المسألة الثانية: وجبات الغداء المدرسية
في ولاية ميشيغان، كان الطلاب يحصلون على وجبات فطور وغداء مجانية بغض النظر عن وضعهم المادي، وهو برنامج أثبت فعاليته في تحسين التحصيل الدراسي ومحاربة الجوع وإزالة وصمة العار عن الطلاب المحتاجين. تكلفة هذا البرنامج لم تتجاوز 200 مليون دولار، أي ما يعادل 0.82% فقط من إجمالي ميزانية التعليم في الولاية البالغة 24.3 مليار دولار. لوضع الأمر في سياقه، يشبه ذلك أن تدفع فاتورة عشاء بقيمة 100 دولار، وتجد أن تكلفة إطعام أطفالك على الطاولة هي 82 سنتاً فقط. لكن بسبب خلافات سياسية وتأخر في إقرار الميزانية، أصبح هذا البرنامج مهدداً بالتوقف، مما يعني أن مئات الآلاف من الطلاب قد يعودون إلى فصولهم جائعين. السؤال هنا: إذا كانت تكلفة ضمان عدم جوع أي طفل في المدارس أقل من 1% من الميزانية، فما هي الحجج المنطقية لوقف هذا الدعم؟
المسألة الثالثة: شبح الأمن
منذ مذبحة كولومباين عام 1999، شهدت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 488 حادث إطلاق نار في المدارس. بين عامي 2009 و 2018، كان عدد حوادث إطلاق النار في المدارس الأمريكية أعلى بـ 57 ضعفاً من مجموع ما شهدته الدول الصناعية السبع الكبرى الأخرى (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، والمملكة المتحدة) مجتمعة. هذه الأرقام المروعة حولت المدارس من أماكن آمنة للتعلم إلى بيئات يسودها الخوف، وأصبح المعلمون والطلاب يعيشون في قلق دائم. لقد تحولت المأساة إلى واقع متكرر لدرجة أن الكثيرين أصيبوا بحالة من التبلد والإنهاك العاطفي. السؤال هنا: إذا كان المجتمع جاداً في معالجة هذه الظاهرة، فما هو شكل العمل الحقيقي المطلوب بعيداً عن الكلمات والتعازي المكررة؟
دعوة للفعل: الأفعال أبلغ من الأقوال
هذه المسائل لا يمكن حلها على الورق. إنها تتطلب تحركاً فعلياً. في مؤتمر تعليمي عُقد مؤخراً، أتيحت الفرصة للمعلمين للاستماع إلى لجنة من الطلاب المراهقين يتحدثون عن تجربتهم. لا تزال كلمات أحد الطلاب تتردد في الأذهان حين قال: “لا نريد معلمين يلقون الدرس ثم يجلسون خلف مكاتبهم. إذا أردتم منا أن نكون متفاعلين، عليكم أن تكونوا متفاعلين أولاً”. ربما تكون هذه هي الرسالة الأهم، ليس فقط للمعلمين، بل لصناع القرار والمجتمع بأسره. فالأزمة التعليمية في أمريكا لن تُحل بالتقارير والأرقام، بل عندما يصبح الجميع “متفاعلين” ومشاركين في بناء نظام يؤمن بأن الأفعال دائمًا أبلغ من الأقوال.